بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين
و اللــعنة الدائــــــمة على أعدائــــــهم أجمعيــــــن الى قيـــــام يــــوم الدين
مجالس العزاء على أبا عبد الله الإمام الحسين عليه السلام - أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا
جديرةٌ بالفضل والثناء مجالس تُعقد للعزاء تقيمها الرجال والنساء يدعو إليه الحب والولاء ، مصابُ أهل البيت فيها يٌذكر ، وذنب من يبكي عليهم يُغفر ، مجالسٌ قال الإمام معلناً إني أحبها فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا .
دعا لمحيي أمرهم بالرحمة فيا لها من منة ونعمة ، عظم شعار الحزن والمصاب على أبي الأئمة الأطياب ، والضحكَ والمزحَ اجتنب والهزل فيها ، ورددْ قول لا حول ولا قوة إلا بالله وأمر بسقي الماء واللعن على من منع الماء عن غريب كربلاء .
قال الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه : يا فُضيل تجتمعون وتتحدثون ؟ قال : نعم سيدي ، قال الإمام : أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا ، والله إن تلك المجالس أحبها .
كان دأب أهل البيت (ع) بعد حادثة كربلاء نشر ما حل بقتلى الطف ، وبما جرى على النسوة والصبية من فزع ودهشة وسلب وضرب وسبي ، فإن زين العابدين (ع) قضى سنين حياته كلها – كما يقول المؤرخون – بالبكاء على أبيه ، فإنه ما قدم له طعام أو شراب إلا ومزجه بدموع عينيه ، وعلى هذا المنوال نسج الأئمة من أولاده ، بل ما زالوا يعقدون مآتم العزاء للبكاء واستماع شعر الرثاء ، ولربما ضربوا الأستار وجعلوا خلفها بنات الرسالة ليستمعن شجي المراثي فيبكبن على صرعى الطف وسبي العقائل بل كان شعارهم حث المؤمنين على نصب مأتم الحزن للبكاء على ذلك الحدث الجلل ، وعلى زيارته ولو على الخشب إشارة منهم إلى الصلب ، وقد لبى المؤمنون تلك الدعوة فما زالت مآتمهم قائمة ، وزيارتهم دائمة ، ولقد لاقوا من أجل ذلك فنون الأذى والتنكيل أيام بني أمية وبني العباس وحتى في عصرنا هذا – القرن العشرين ميلادية – ما زال أعداء أهل البيت يحاولون وبشتى وسائل الترغيب والترهيب محاربة إقامة هذه المجالس ، أو حذف مادة الحزن منها على الأقل .
واستمر أئمة أهل البيت يأمرون بنشر الدعوة الحسينية بكل وسائل النشر ، وقد سبقهم إلى ذلك جدهم المصطفى (ص) فقد بكى ولده الحسين (ع) وحض على البكاء عليه ، وحث على نصرته عند نهوضه وعلى زيارته بعد قتله .
وقد جاء في كتاب (الوسائل) (1) أن الإمام الصادق (ع) قال : ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين (ع) وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب .
وصرح الإمام الصادق (ع) (2) : كل الجزع والبكاء مكروه ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين (ع) .
وجاء عن الإمام الصادق (ع) أن الإمام زين العابدين (ع) بعد حادثة الطف ، ما وضع بين يديه طعام إلا بكى ، فقال له مولى من مواليه : جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين ، فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إني لم أذكر مصارع بني فاطمة إلا وخنقتني العبرة .
وروى الصدوق في الخصال أنه بكى على أبيه عشرين سنة وقال له مولاه : أما آن لحزنك أن ينقضي ، فقال الإمام زين العابدين (ع) : ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحدودب ظهره من الحزن وابنه حي في دار الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني .
وكان مع ذلك لا يترك (ع) مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه وأسرته في كربلاء ، وكان يطلب المناسبة ويبحث عنها ليحدث بما جرى على أهل بيته ، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماء قبل ذبحها ، وعندما يسمعهم يقولون : إنا لا نذبح حيواناً قبل أن نسقيه ولو قليلاً من الماء يبكي ويقول : لقد ذبح أبو عبد الله غريباً عطشانا فيبكون لبكائه حتى ترتقع الأصوات بالنحيب ويجتمع الناس عليه .
وكان (ع) إذا رأى غريباً في الطريق دعاه إلى ضيافته وطعامه ، ثم يبكي ويقول : لقد قتل أبو عبد الله غريباً جائعاً عطشاناً في طف كربلاء إلى غير ذلك من المواقف التي كان يقفها ليشحن النفوس بالحقد على الظالمين من أعداء أهل البيت .
ومن المعلوم أن النشاط الذي كانت تقوم به السيدة زينب (ع) لم يكن يعدو ترديد تلك المأساة والنوح والبكاء المتواصل الذي ألهب النفوس وهيأها للثورة على يزيد وحكومته الجائرة .
ولقد استطاع الإمام زين العابدين (ع) حينما أُخذ أسيراً إلى الشام أن يحول مجلس يزيد بن معاوية إلى مأتم عزاء للإمام الحسين (ع) وأن يفضح يزيد الذي دعا وجوه أهل الشام وأجلسهم حوله وأمر بإدخال علي بن الحسين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال ، فقال له علي بن الحسين : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على مثل هذه الحالة ؟ فلم يبق أحد ممن كان حاضراً إلا بكى .
فأمر يزيد أحد أنصاره أن يصعد المنبر وينال من علي والحسن والحسين ويثني على معاوية ، فصعد الخطيب المنبر ، فأطرى معاوية ونال من علي والحسن والحسين (ع) فقال له الإمام زين العابدين (ع) :
ويلك أيها المتكلم لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ، ثم التفت إلى يزيد وقال : أتسمح لي أن أصعد هذه الأعواد وأتكلم بكلمات فيها لله رضا ولهؤلاء الجلوس أجر وثواب ، فلم يأذن له يزيد بذلك ، فقال له من في المجلس : ائذن له لنسمع ما يقول ، فرد عليهم يزيد بن معاوية بقوله : إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ولم يزالوا به حتى أذن له فصعد الإمام المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الردى ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى أنا ابن من حج البيت الحرام ولبى .
أنا ابن خبر من حُمل على البراق في الهوا .
أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى .
أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى .
أنا ابن من صلى بملائكة السما .
أنا ابن من أوحى الجليل إليه ما أوحى .
أنا ابن محمد المصطفى وابن علي المرتضى .
أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله .
أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وبايع البيعتين وطعن برمحين وهجر الهجرتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين .
ولم يزل يقول أنا أنا ويعدد على الحضور مآثر جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه الحسين ويذكر ما جرى في طف كربلاء حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه فأمر المؤذن أن يؤذن ليقطع حديثه ، فلما قال المؤذن : الله أكبر قال (ع) : لا شيء أكبر من الله ولما قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال الإمام (ع) : شهد بها لحمي ودمي وبشري وشعري ، ولما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، التفت علي بن الحسين إلى يزيد بن معاوية وقال :
محمد هذا جدي أم جدك ؟ فإن زعمتَ أنه جدك فقد كذبتَ وكفرت ، وإن زعمتَ أنه جدي فلم قتلت عترته ؟!.
وفي المدينة المنورة أخذ الإمام زين العابدين (ع) يردد تلك المأساة ويذكر ما صنع الأمويون بأبيه ويبكي لذلك حتى أصبح البكاء لقباً من ألقابه ، وهكذا كان سائر الأئمة ، فاتخذ الشيعة من شهر المحرم أيام حزن ونياحة على الحسين (ع) يجتمعون ويذكرون ما جرى وعلى أهل بيته من القتل والتنكيل والسبي ، ولما جاء المتوكل العباسي المعروف بعدائه الشديد لأهل البيت هدم قبر الحسين ومنع الناس من زيارته وهددهم بالقتل ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم إذا أقاموا مأتماً أو ذهبوا لزيارته .
وجاء في تاريخ ابن الأثير وهو يستعرض حوادث سنة (236 هـ) أن المتوكل العباسي كان شديد البغض لعلي وأهل بيته ويقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً والحسين بمصادرة ماله وقتله ، وأضاف ابن الأثير أن المتوكل كتب إلى واليه على مصر يأمره بإخراج آل ابي طالب من مصر إلى العراق وكانوا في مصر يتظاهرون بالولاء لعلي (ع) ويذكرون ما صُنع بالحسين في كربلاء ، فأخرجهم والي مصر إسحاق بن يحيى لعشر خلون من رجب سنة (236 هـ) واستتر من كان فيها على رأي أهل البيت (ع) وحلت بالشيعة والعلويين أزمة فائقة في عهده من الظلم والجور الذي أحيط بهم من ناصبية المتوكل وولاته في مختلف الأمصار والأقطار .
نعم أيها الأخ المؤمن كان الأئمة من أهل البيت (ع) يحرصون على بقاء ذكرى استشهاد الحسين (ع) حية خالدة ، فأمروا بإحيائها وانتشارها .
ولقد خاطبنا الإمام الصادق (ع) من خلال أصحابه حيث قال : أتذكرون ما صُنع بجدي الحسين (ع) لقد ذُبح والله كما يُذبح الكبش وقُتل معه سبعة عشر شاباً من بنيه وأهل بيته وإخوته ما لهم على وجه الأرض من مثيل .
وقال الإمام الرضا (ع) وهو يحدث جماعة من أصحابه عما جرى على الحسين وأهله وبنيه ويعيد إلى أذهانه أحداث كربلاء : قولوا متى ما ذكرتموهم : يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً .
...يتبع.....