الشيخ الحجاري الرميثي مبدع فعال
عدد الرسائل : 61 العمر : 68 السٌّمعَة : 0 نقاط : 159 تاريخ التسجيل : 28/02/2009
| موضوع: واضمُم يدَكَ إِلى جناحِكَ تَخرج بيضاءَ:تفسير الشيخ الحجاري طاعناً بتفاسير الإسرائيلية الخميس فبراير 07, 2013 9:23 am | |
| [center] (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَـيْرِ سُـوءٍ آَيَـةً أُخْرَى) (طه:22)
نأتِي الآن فِي تفسِير آيَـةٌ فَقـط لا بِقِصَةِ مُوسى بعـدَ نَشأتِهِ فـي بَيتِ
فِرعَونَ, حَيثُ أنَ قصَةَ مُوسى هيَّ أكبَرُ القصَصِ فِي القرآنِ الكَريم
وَسَنَوْرِدُ مُسْتَقبَلاً سِيرَتَـهُ كامِلَةًً بعَونِـهِ تَعالى: وَالطَعنُ عَلى الآثـارِ
المَنقولَةِ مِنَ الإسْرائِيلِياتِ التِي ذكَرَها المُفسِرُونَ,,
فَلابُدَ لِيَوْمٍ أنْ نتَساءَلَ فِيـهِ عَـنْ أخْطائِنا, وَلكِن أقول وَأنـذِرُ وَأحَـذِرُ
بِسْمِ القُرآن مَهْمَا يَكُن هُناكَ مَرْجِعٌ أوْ عالِمٌ في تَفسِير ما يَصدُر مِنهُ
إلى الناسِِ عامَتَهُم وَخاصَتَهُم فأنَ العاقِلَ مِنهُم لا يَأخُـذَ بغيرِ مَا قـامَ
الدَلِـيلُ على ثبُوتِـهِ وَصِحَتِهِ, ولَيـسَ مِنَ الأدِلَـةِ القاطِعَةِ أنْ تـُفرَّضَ
عَلى الناسِ مِمَّنْ يَنبَغِي البـِر كَوْنَـهُ حِجـَةٌ عَليهُم وَهُـوَ كثِيرُ الخُطَبِ
والتَقدِيرِ كَوْنَـهُ شَخصِيَةً بارزَةً وَقَلَمَهُ لاَ يَسْطَعُ سَطْعاً وَسُطُوعاً فِي
عَقلِهِ فِيمَا لاَ يَتَوافَـق تَفسِـيرَهُ معَ القـُرآنِ أوْ مَعَ مُسلّماتِ المَذهَـبِ
الشِيعِيِ الحَّق؟؟
فإذا طرَحَ المُفسِرُ آيـَةَ فِكْرَهُ في تَفسِيرِ آيَـةً مِـنَ القـُرآن فَمَهْمَا كانَ
واثِقاً بِنَفسِهِ كَمَرجِعٍ عَلى الناسِ فهُوَ لامُحالَ أنْ يَكُونَ عَقلَهُ مَحكُومُ
القوانِينَ بقَواعِدٍ وَأُسِسٍ حَقيقِيَةٍ: فالمُتَعِيِّنُ لِتفسِيرِ آيَـة مِنَ القـُرآنِ
فلابُـدَ النظَر فِي مَفادِ تِلكَ الحُجَةِ فهَلْ تَثبِتُ أمامَ النَقـد وَالطَعن عِـندَ
مناقشَةِ العَقـلِ حَسْبَما يَـراهُ القارئ غـيرُ مُناسِباً لِلقواعِـدِ القرآنِـيَةِ
بأصُولِ المُحاوراتِ الشَرعِيةِ سُنَةً وَعُرفاً وَعَقلانِيَةً وَعرفانِيَةً,,
وَإلاَّ يُعَنَفُ المُفسِرعلى مَايَكتِبُهُ مِمَا يُناقشَهُ الناس عَلى مَنْ لاَ رَبْطَهُ
بِصِلَةٍ مَا؟؟
فمِثلُ هِذِهِ الأحكامُ قَـدْ تكُونُ مُتَنافِيَةً مَعَ دَرَكٍ عَقلٍ بَدِيهي, فأيْنَ هُوَ
الدَلِيلُ أوْ الحَدِيثُ أوْ الرِوايَةُ ما يُثَبِت عَـنْ سَـندٍ بالإجْماعِ لاَ بِعَنعَنَةِ
الأقاوِّيلِ الإسْرائِيلِيَة بـأنَ مُوسى قََـد أصابَ يَـدَهُ بَرَصاً,, كَمَا نَسَّـبَ
السَيد الطَباطَبائِي وَغَـيْرَهُ السُوءَ إلى كُـلِّ رِداءَةٍ وَقُبْحِ كُنِيَ بـهِ فِـي
الآيَةِ عَن البَرَصِ؟؟ وَيا لِلعَجَبِ كَـمْ مِنْ هـذِهِ لِتَفسِيرِ وَهُم فِي كَلِمَـةٍ
سَواء كَأنَهُم يَسْرِقُوا بَعضَهُم بَعضاً فتَشابَهَت تَفاسِيرَهُم بِخَطَأٍ واحِدٍ
لِـذا نَذكِـرُ وَاحِـدَةً مِنَ الجُمَـلِ الكَثِيرَةِ المَنسُوبَةِ إلى مُوسى بِتأوِّيلِهِم
الخاطِئ وَكَمَا يَلِي:
قالَ ابن كَثير فِي تَفسِيرِهِ الكَبير لِلأهلِ السُنَةِ وَقَوْلَهُ تَعالى (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) قالَ كفهُ تحتَ عِضده وذلك أن موسى عليه السلام
كان إذا أدخل يدهُ في جيبهِ, ثم أخرجَها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر وقولهُ (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي: من غـير بَرَص ولا أذى ومن غير شين قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك
والسدي، وغيرهم,,
((وَفِي التَفسِيرِ الكَبير لِلإمام فخر الدِين الرازي))
قالَ: السوء الرِداءَة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عـن العَـورَة بالسَوْأة والبرص أبغـض شيء إلى العـرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها
كانت تبرق مثل البـرق وقيل مثل الشمس من غـير بـرص, ثـم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور,,
((وقالَ آيَة الله السيد مَحمد حسين الطباطبائي في تَفسِيرهِ))
قولهُ تعالى (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِـنْ غَـيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى) (طـه:22) الضـم الجمع، والجناح جناح الطائر, واليـد والعضد والإبط ولعـل المراد بـه المعنى الأخير ليئول إلى قولهِ في
موضع آخـر (وَأَدْخِلْ يَـدَكَ فِي جَيْبِكَ) والسوء كل رِداءَةٍ وقبحِ قـيل كُنيَ به في الآيـة عن البـرص, والمعنى أجْمَع يـدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برصٍ أو حالةٍ سيئةٍ أخرى وقولـهُ, آيـة أخـرى: حال مـن ضمـير تخـرج وفيـه إشـارة إلـى أن
صيرورة العَصا حَية آية أولى واليد البيضاء آية أخرى وقال تعالى في ذلك: فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه:القصص: 32
((وَفي تَفسِير إمام الشِيعَة الشيخ الطُوسِي المُتوفي سَنة460هـ))
وقولهُ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) قـيل في معناه قـولان: احدهما إلى جـنبك، قـال الراجـز: أصمه للصـدر والجناح (1) الثاني إلى عضدك وأصل الجنوح الميل، ومنه جناح الطائر، لأنـه يميل بـه في طيرانه حيث شـاء, والجنب فيـه جنـوح الاضلاع, وأصل العضد من جهته تميل اليد حيث شاء صاحبها,,
وقال أبو عبيدة الجناحان الناحيتان وقوله (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ) أي: من غير بـرص في قول ابـن عباس ومجاهد والحسن
وقتادة والسدي والضحاك– وقولـه ( آَيَـةً أُخْرَى ) قـيل في نصبها
قولان احدهما على الحال, والآخر على المفعولية، أي نعطيك آيـة أخرى، فحذف لدلالـة الكلام عليـه، فالآيـة الأولى قلب العصا حـية
والأخرى اليد البيضاء من غير سوء, وقيل إنه أمرهُ أن يدخلَ يدهُ في فـمِها فيقبـض عليها,, فأدخـل يـده في فمها فصارت يـده بـين
الشعبتين اللتين كانتا في العصا، وصارت الحية في يـده عصا كما كانت,,
((الطَعـْنُ عَلى الآثـارِ المَنقـُولَةِ
الإسْرائِيلِيِة وَكَما يَلِي تَفصِيلُها))
تَفسِيرُ العَلامَة الشيخ الحَجاري: قالَ, قِصَةُ مُوسى لَها وَجْهٌ يَرتَبِطُ
بِهذِهِ الآيَة بِحادِثَةِ القَتل بِوَكْزِ اليَد لاَ ببَرَصِها وَقَوْلَهُ تَعالى (وَاضْمُمْ
يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى) (طه:22)
لاَ شَكٌ فِي وجُـودِ هـذِهِ الآيَـة أنَ هُـناكَ عِلاقةٌ بَـيْنَ المَعلُولِ وَعِلتِـهِ
الواقِعَةُ عَليهِ, وَمَـفاد سِـرّ ارتِباط المَعلـُول بعِلتِهِ وَقُوع حَدَثٌ هُناكَ
فلِكُلِ حادِثٍ يَحتاجُ فِي حِدُوثِهِ إلى عِلَةِ الحِدُوث أنْ لا يَخلُو مِنْ نَظرِ
خَوْفِ مُوسى عَنْ اسْتِغناءِ الحادِثِ بعدَ حِدُوثِهِ عَنْ عِلتِهِ المُحْدِثَةِ لهُ
قَبْلَ نزُولِ هذِهِ الآيَة بِعَشرِ سِنِينَ بِقَتلِ القُبطِي الفِرعُونِي, وَمِنِ هذا
جِئنا لِنُحَذِر المُفَسِرينَ بأخطائِهِم: بَـأنَ الآيَـة لَيْسَتُ مَبْنائِـيَة حَسْبَمَا
يَزعَمُونَ بِتَفاسِيرِهِم الواهِيَةِ بأنَ السُوءَ مَـرَضُ البَـرَص قَـد أصابَ
يَـد مُوسى فَأرادَ اللهُ أنْ يَشفِيَها فَأخرَجَها مِنْ جَيْبِهِ (بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ)
فلْيَعلَمَ المُفَسِرُونَ: أنَ اللهَ جَّلَ وَعَلا إذا أرادَ أنْ يُوْقِعَ مَرَضاً بِإنسانٍ
ثـُمَ يُشْفِيَهُ لا يَجْعَل عِلَةَ المَرَض فِيـهِ سُوءً فِي بِدايَتِـهِ وَإنَما امْتِحاناً
لَـهُ,, فإذا صَـبَرَ الإنسانُ عَلى بَلاءِ مَرَضِهِ وَاسْتَرجَعَ أمرَهُ إلى اللـَّهِ
وَشْفاهُ فَـلاَ يَجْعَلُ اللـَّهَ عِلَـةَ المَعلُول تَخْرِجُ مِـنْ غَـيرِ سُـوءٍ إذا كانَ
المَرَضُ قَد وَقعَ لِلإختِبار, لأنَهُ سُبْحانَهُ لا يَمْتَلِكُ بِذاتِهِ السُوءَ وَالشَرَ
بالأمْراضِ لِعبادِهِ كَالبَرَصِ حَسْبَمَا يَزْعَمَ المُفَسِرُونَ؟؟
وَإلاَّ لِوَقعَ الانتِفاءُ بَيْنَ الخَيْرِ وَالشَرِ كَمَا قالَ: القَدَريُونَ وَالجَبْريُونَ
بأفكارِهِم الواهِيَةِ إنَمَا الخَيْرُ وَالشَرُ مِنَ عِندِ اللهِ تَعالى,,
وَالبَرَصُ داءٌ مَعرُوفٌ وَهُـوَ بَياضٌ يَقَـعُ في جِسْمِ الإنسان,, أمَّا إذا
كانَ السَّوْءَ نَعتاً لِلرَجُلِ وَلاَ يَكُونُ السَّوْءَ نَعتاً لِلعَمَلِ، لأَنَ الفِعـلَ مِنَ
الرَجُلِ ولَيْسَ الفِعـل مِنَ السَّـوْءِ, وَهـذِهِ لَيْسَتُ مِـنْ فِعالِ مُوسى أنْ
يُعاقِبَهُ اللهَ سُوءً بِمَرَضِ البَرَص ثـُمَ يُشْفِيَهُ مِـنْ غَـيرِ سُوءٍ,, فَاللـَّهُ
لاَّ يَمتَلِكُ بِذاتِهِ إلاَّ الخَيرُ وَالحَسِنُ كَمَا أنَهُ بِمْثلِهِ لاَيُجازي الله الأنبياءَ
مِنْ حَسَنٍ بسَيِّئٍ، وَلاَ يُجازيهُم مِنْ غِلَظٍ بِلَيْنِ والدَلِيلُ عَلى قَوْلِنا هذا
هُـوَ قَولُ نَبِّي اللـَّه إبْراهِيمَ فِي قَوْلِـهِ تَعالى: قـالَ (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ)(الشعراء:80) فأسْنَدَ إبراهِيمُ المَرَضَ إلى نَفسِهِ، وَإنْ كانَ
نِزُولَهُ عَنْ اللهِ فَهُوَ قَضائَهُ لِلاختِبارِ بِحَسَبِ صَبْر العَبْد عَليه, وَلكِن
أضافَ إبراهِيمُ المَرَضَ إلى نَفسِهِ أدَباً لأنَ العِلَةَ بالشَفاءِ,,
((وَجهُ القِصَةَ وَفِيها أدِلَةٌ مِنْ باطِنِ القُرآنِ))
وَنَقُول كَلاّ: هُوَ مُوسى بنُ عُمْرانَ بنُ يَصْهِر بنُ يافِت بنُ لاوِّي بنُ
يَعقوبَ بنُ إسْحاقَ بنُ إبراهِيمَ الخَلِيل, لَمَّا حَمَلَتهُ أمُهُ فِي بِطنِها لَـمْ
يَظْهَر حِِمْلُها وَلأسبابٍ كانَ لِمِصْرَ مَلِكٌ جبارٌ اسْمُهُ فِرعَوْنَ الطاغِيَة
حِينَ رأى نَفسَهُ ماتَتقلَب مِن نَعِيمٍ وَمَّا تَتمَتَع بهِ مِنْ سَطْوَةِ السُلْطان
وَمَّا يُحِيطُها مِنْ قوَةِ الجَبَرُوتِ, أقامَ نفسَهُ إلهاً حَتى دَعا الناس إلى
عِبادتِـهِ وَألزْمَهُم الخضُوعِ إليهِ مِـنْ عَـمَهٍ, حِـينَ رَأى فِيهُم الجَهْـلَ
فاشِياً وَالعقائِدُ فاسِدةً,,
فلَّمَا تَوَلى الأمْرُ عَليهِم دَعا السَحَرَةَ والمُنجِمِينَ إليهِ وَهُوَ ذو القُوَةِ
فِيهُم حَتى جَعَلَ فَقِـير القِبْـط الفِرعُوْنِي غـَنِياً وَأنزَلهَُم أحسَنَ مَقامـاً
وَعَزيـزَ بَنِّي إسْرائِيلَ ذَلِـيلاً مُشَرَداً, وَكـانَ فِرعَـوْنَ حامِـلُ القَبائِـح
وَالمَوْت لِبنِّي إسْرائِيلَ الَّذِينَ كانُوا يَتَدارَسُونَ فِيمَّا بَينَهُم مِنْ أخبارٍ
يُؤثِرُوها فِي أنفُسِهِم عَنْ نِبِّي اللـَّه إبْراهِيمَ عَليهِ السَلام بأنَ سَوْفَ
يَخرِجُ لَهُم مِنْ ذُريَتِهِ غـُلامٌ يَكُونَ نَبِّياً يَقـُوم بِهَِلاكِ مَلِكَ مِـصْرَ عَلى
يَدِيـه،, وَكانَت هـذهِ البِشارَةُ مَشْهُورَةٌ فِي بَنِّي إسْرائِيلَ فتَحَدَثَ بها
القِبْـط فِيمَّا بيْنَهُم وَوَصَلَت إلى فِـرْعَوْنَ فذكَرَها لـَهُ أُمَرائَـهُ وَقادَتَـهُ
فأمَرَ بقَتلِ أبناءَ بَنِّي إسْرائِيلَ حَذراً مِنْ وجُودِ هذا الغُلام ولادَةً وَلكِن
لا يََغنِي لَهُ حَذرَ مَا قَدَّر,,
وَهذِهِ هِيَ نِعمَةُ اللـَّه تَعالى,, كَـلاَّ مِنْ حَيثُ لا يَعلَمُونَ ومَا يَشعِرُونَ
المُشْرِكُونَ الذِيـنَ اتَبَعُـوا فِـرعَوْنَ رَبـاً لَهُم حَتى يأتِيهُم مُوسى بـِنَبأًٍ
عَظِيمٍ, ذلِكَ مُوسى الذِي تَرَبا في بَيْتِ فرعَوْنَ وَتَبَناهُ وَلداً وتَفدا لـَهُ
وأخْفى اللـَّهُ أنْ لاَ يَطلِـعَ فِـرعَوْنَ على سِّـرِِ مَعناه,, سُبْحانَكَ أيَكُونَ
هَلاك فِرعَوْنَ وجنُودَه ُعَلى يـَدِِ مُوسى مِنْ حَيثُ (لا يَشْعِرُونَ)
فالدَلِيلُ الأوَل أنَ المُرادَ مِنَ اليَدِ التِي أشارَ إليْها الله (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) هِيَّ يَـدُ النَبّي مُوسى حِينَ دَخلَ مَدائِن فِرعَوْنَ التِي
سُمِيَّت مِصْرَ الأُولى: لَم يَدخِلُها مُوسى مِنْ قبلُ, فدَخَلَها (عَلَى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) أيْ: بَعـدُ أنْ غـُلِقَت الأسْواق, وَعُطِلتْ مِـنَ المارَةِ
مابَـينَ الغــرُوبِ وَالعَـشاءِ ( فَوَجَـدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْـتَتِلانِ ) بَـلْ هُـما
يَتَصارَعان وَيَتَضاربان بِعَـزْمٍٍ وَشِدَةٍ فِي هَـلاكِ أنفسِهِما ( هَـذَا مِـنْ
شِيعَتِهِ) إسْرائِيلِي النَسَّب كانَ يَتَعَبدُ على دِينِ يَعقوب التَقِي وَإنْ لمْ
يَبقَ مِنْ دِينِـهِ ذِكـرٌ إلاَّ أسمُهُ ( وَهَـذَا مِـنْ عَـدُوِّهِ ) القُبْطِي المُشْرك
الفرعَوْنِي (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) وَهُوَ الإسْرائِيلِيُ الذِي طلبَ
مِنْ مُوسى يَسْتَنصِرَهُ (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) وَهُوَ القُبطِيُ ( فَوَكَزَهُ
مُوسَى) بيدِهِ, والوَكزُ هُـوَ ضَّمُ أصابعَ الكَّـف: فدَفعَـهُ مُوسى بجُمْعِِ
الكَفِ (فَقَضَى عَلَيْهِ) فماتَ القُبطِي الفِرعَوْنِي: وَكانَ قتلَهُ خَطأً, لأنَ
مُوسى مَا أوْقعَ بـهِِ القتلُ وَبسَببِ ذلِكَ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)
الذِي أوْقعَ بَينَ المُتَخاصِمَيْنِ العَداوَةَ في قتلِ إِحداهِما وَهُـوَ القبطِي
(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (القصص:15) حِيثُ أنَ الشيطانَ إذا أوْقـعَ
العَـداوَةَ بَـينَ أثنَينِ أوْقـعَ بينهُما المَعصِيَة باللـَّهِ التِـي فِـيها الخَطـَأُ
المَحض,, فعندَئذٍ علِمَ مـُوسى سَوفَ يُثِيرُوا عَليهِ القُبط مِـنْ خِـلالِ
الإسْرائِـيلِي الـذِي أسْتنصَـرَهُ بالأمْـسِ ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْـسِي
فَاغْفِرْ لِي )
تأوِّيلُ هذِهِ الآية فِيها مَغزى عَمِيق إنَ طلبَ مُوسى هُوَ غفرانٌ ليْسَ
بمُرادِ قتلِ الرَجُل,, وَإنمَا هُـوَ مِـنْ بـابِ النَجاةِ بمَوْرِدِ الخَطِـر الـذِي
سَوْفَ يَتسَببُ لَهُ مِنْ أهْلِ المَجْنِي عَليهِ لأنَ الشيطانَ لمْ يَترُكَ الأمْرَ
بَينَ أثنَينِ على سَبيلِ النَجاةِ فلابُدَ مِنَ الذِي اسْتغاثَ بمُوسى بالأمْسِ
إنهُ يُخْبِرَ فرعَوْنَ عَن قتلِ القبْطِي الذِي هُوَ مِن عَدوِّهِ, فَحِينئِذٍ خافَ
مُوسى أيَتهَِمُونَهُ بقتـلِ القبطِي: فقال ربِِّي (فَاغفر لِي) لأننِّي دَخلتُ
مَدينَة فِـرعَونَ دُونَ أذنِ أهلِها: والدَلِـيلُ إنـَهُ مَا جـاءَ الغفرانُ عَلى
سبيلِ القَتلِ بَلْ جاءَ على سَبيلِ المَدينَةِ التِي دَخَلَها مُوسى دُونَ عِلْمِ
أهلِها كَما وَرَدَ في نظِيرِ قولِهِ تَعالى عَنهُ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِـينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) فَغفَرَ اللهُ لَهُ عَن ذلِكَ لَيْسَ عَلى سَبيلِ القتل بلْ إنَهُ
قَتلٌ وَقعَ (مِِن عَملِِ الشَيطانِ) الذِي أوْقـعَ بَينَ الإسْرائِيلِي وَالقبطِي
وَأنجى اللهُ تَعالى مُوسى مِنَ التُهَمِ وَالغَّمِ الذِي يُصِيبَهُ مِنهُما ( إِنَّـهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فَعِندَئِذٍ أُبعَدَ اللـَّهُ مُوسى مِنْ شَّرِِِ فِرعَوْنَ ومَلأهِ
الفاسِدِينَ إلى يَوْمِ الوْقتِ المَعلُومِ,, فَأعطى مُوسى رَبَّـهُ عَهْداً عَلى
نفسِـهِ ( قَـالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْـتَ عَلَيَّ فَلَـنْ أَكُـونَ ظَهِـيراً لِلْمُجْرِمِـينَ )
(القصص17) يَعنِي: الذِي اسْتَغاثَهُ بالأمْسِ وَهُـوَ الإسْرائِيلِيُ مِـنْ
شِيعتِهِ (فَإِذَا الَّـذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) ثانِيـةً وَهُـوَ فـِي
الصِـراعِِ مَـعَ القُبْطِـي الثانِـي قرابـةُ الـذِي مـاتَ يَسْتَصْرِخ مُـوسى
ليَنصِـرَهُ,, والاستِصْراخُ هُـوَ الصَـوْتُ المُرتَـفِع مِـنَ الصُـراخِ: لأنَ
المُسْتغِيثَ يَصْرَخُ رافـعاً صَوتَـهُ في طلَبِ الغـَوْثِ والنَجـدَةِ ليُنصِرَهُ
مُوسى ثانِيَـة, فلمَّا عـلِمَ مُوسى أنَ هـذا الرجُلُ حَيالٌ مَكارٌ يُريـدُ أن
يُوهِمَ القبطِي الثانِي الذِي اشْتَّدَ مَعَهُ بالصراعِ كَي يُدفِعَ التُهْمَةَ عَن
نفسهِ وَيَشهدُ عَلى مُوسى زُوراً إنَهُ هُوَ القاتِلُ (قَالَ لـهُ مُوسَى إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (القصص:18)
فهَّمَ مُوسى عَليهِ: أي (أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالّذِي هُـوَ عَـدُوٌّ لَهُمُا) وَهُوَ
الإسْرائِيلِي الـذِي اسْتَنصَرَهُ بالأمْـسِ عَرفَـهُ مُـوسى إنَـهُ عَـدُواً لـَهُ
(قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّـا
أَنْ تَكُـونَ جَـبَّاراً فِي الْـأَرْضِ وَمَـا تُـرِيدُ أَنْ تَكُـونَ مِـنَ الْمُصْلِحِينَ)
(القصص:19)
فَعَلى هذا البَيانُ خافَ مُوسى حِينَ سَمعَهُ يُعاتِبَهُ تَحيُلاً لِيُوهِمَ القُبطِي
الثانِي كَي يَشْهدُ عَليـهِ عِـندَ فِرعَـوْنَ بقتـلِ القبطِي الأوَل (فَأَصْبَـحَ)
مُوسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ)القصص18) وَالتَرقِبُ هُوَ التَطلِعُ
فَإنهُ يَتَرقبُ كَصِفةِ المَحرُوبِ مَنْ حُرِبَ دِينَهُ لَيسَ عَلى مَنْ أُخِذُ مالَهُ
غيرَ مَحرُوبٍ؟؟ حينَئِذٍ جاءَهُ رَجُـلاً مُؤْمِـناً يَسْعى مَشْياً سَريعاً وَهُـوَ
حُزقِيلُ الذِي أوَل مَنْ صَّـدَقَ بدَعوَةِ مُوسى وَآمَنَ بـهِ: كَمَا جـاءَ فيِ
قولِهِ تَعالى (وَجَاءَ رَجلٌ منْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أيْ: وجُوه القَومَ وَكبارَهُم يَأتَمِرُونَ بِك
بَعضَهُم بعضاً, وَيَتَشاوَرُونَ في شأنِكَ لِيَقتلُوكَ, ومَعنى التَشاوِّر هُوَ
الائتِمارُ على مُوسى بشَهادَةِ القبْطِـي الثاني,, لأنَ المُتشاوِّرينَ قـد
يأمْـرُ البَعضَ بَعـضاً: وَقالَ حُزقِـيلُ (فَاخْرُجْ إِنِّي لكَ مِنَ النَّاصحِينَ)
فَعَلى أثـر تِلكَ الجِنايَةِ خرَجَ مُوسى خائِفاً مِنْ مِصْرَ مُتَجِهاً لا يَدري
إلى أيْنَ يَذهَب, بَـلْ يُريِدُ أنْ يُصْرفَ عَنهُ كَيْدَ الظالِمِينَ,,
هـذا الرجِلُ العَظِيـم الذِي ساوَرتهُ الهمُـوم, وَشَعبَتهُ الأحزان يَتَرقبُ
الطريق ويَلتفَت خِشيَةً أنْ يَدركُهُ أحَدٌ مِن قوْمِ فِرعَوْنَ لا زادٌ يَحمِلَهُ
ولاَ مُعِينٌ لَهُ ولاَ رَفيقٌ يُؤْنِسَهُ إلاَّ رعايـَةَ رَبَـهُ الكَريم,, فأخذَ طريقاً
إلى مَقصَدَهِ (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) القصص22)
هـرَّبَ مِنْ طَريـدِ الحِقدِ الجائِر عليهِ راكِـباً مَتـنُ الصَحاري وَالجبالِ
فأخذَ اللَّيلُ جَمَلاً لَـهُ سائِراً ثمانُ ليالٍ سَوِّيـا وَالقلبُ عامـِرٌ بالإيمانِ
عَظِيمُ الثِقةِ باللهِ الذِي جَعَلهُ في مُنتَهى مَفازةٍ يَأوِّيَ إليها: كَمَا جاءَ
بـهِ قرآناً (تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) يَلقِيَ مُوسى همُومَهُ فِيها ( وَلَمَّا وَرَدَ
مَاءَ مَدْيَنَ ) في بِلادِ الشامِ وجَدَ حَشْداً مِنَ الناسِ قـدْ تَزاحَمُوا عَلى
مَوْردِ ماءٍ, وَكانَ كُـلَّ واحِـدٍ مِنهُم يَعتَمِـدُ عَلى قوَّتِـهِ فِي التَقـَدُمِ إلى
البئْرِ لِسِقاءِِ غنمِهِ ( وَوَجَدَ ) مُوسى ( مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ )
أيْ لا يَسْتَطِيعان مُدافَعَةُ الرِجال عَنْ البِئْرِ فَمَا وَجَدْنَ إلاَّ ذلِكَ الرَجُل
الذِي يَـذُودَ عَنهُـنَ, وَهُـوَ الحَامِـي الدَّافـِعُ الأغـنام عَـنْ البئْـرِ حَـتى
لايَختَلِطُ مَعَ أغنامِ الناسِِ كَي يَخْلُوا لَّهُنَ البِئْر (قَالَ مَا خَطْبُكُما) ومَا
شَأنَكُما بِصِعُوبَةِ الأمْرِ وَشَأنِهِ لا تَسْقِيانا مَعَ الرُعاةِ ( قَالَتَا لا نَسْقِي
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَـا شَيْخٌ كَبِيرٌ) عاجِـزٌ عَـن مُساجَلةِ القـَوْم
قالَ: مُوسى حَسَناً أنَـا أكفِيكُمَا, فأخَذَ الدَلـْوَ مُسْتأذِن الرُعاة: فسَّقى
لِبنَتِي شُعَـيب دَلَـواً بَعَـدَ الآخَـر ( ثُـمَّ تَـوَلَّى إِلَى الظِّـلِّ ) مِـنْ شَجَـرةٍ
لِيَسْتَريحَ قلِيلاً مِمَا أصابَهُ مِن مَشقَة ِالطريقِ الذِي أجْهدَهُ ثمانُ لَيالٍ
سَوِّيا لـَمْ يأكُل إلاَ بَقولَ الأرضِ الذِي يَتَراءى مِـنْ بطْنـهِ ( فَقَالَ رَبِّ
إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَـيْرٍ فَقِيرٌ) طَلـبَ مُوسى مِـن ربِّـهِ إلاَ خُبـزاً
قِفاراً والفقيرُ مَبْنيٌّ على فَقُرٍ قِياساً،, ولَـمْ يَقلْ فِيهِ إلا افْتَقـَرَ يَفْتَقـرُ
فهُوَ فَقِـيرٌ, ونِسبَةُ الطعامُ إلى الفِقرِ كَنسْبةِ الفقِـيرُ إلى المالِ ( مِـنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ ) يأكِلـهُ: لأنَ مُوسى بحاجَةٍ إلى القـوَةِ البَدنيَةِ حَـينَ رأى
صَفاقةَ بطْنِهِ قـدْ لَصُقَتْ على ظهرهِ, وهذِهِ عَلامَة على إظهارِ الفُقر
طالِباً شَيءٌ مِنَ الطعامِ فاسْتَجابَ اللهُ لِدُعائِهِ: وبَينَمَا هُوَ كَذلِكَ حِينَ
ذَهـبَتا بِنتَي شُعيب إلى أبيهِما,, فاسْتَنكَرَ أبيهِما سِرعَـةَ رجُوعِهمَا
مُتَعَجِباً: فأخبَرَتاهُ عَـن أمْرِ مُوسى, فأمَـرَ شُعيب إحداهُما أن تَذهَبَ
إليهِ وَتَدعُوه (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)
الحَياءُ وَالاسْتِحياءُ لَفـظٌ واحِد وهُوَ مِنَ الإيمانِ: أوْ غريزةٌ اكتِسابيةٌ
مِنهُ، لأنَّ المُسْتَحِي يَنْقَطِع بِحَيَائِهِ عَن المَعاصِي وَإنْ لمْ تَكُن لَهُ تَقِيَّة
فصارَ كَالإيمانِ الذِي يَقْطَعُ بينَهُ وبَينَ الاسْتِحياءِ, لأنَّ الإيمانَ يَنْقَسِمُ
إلى ائْتِمارٍ بِما أمَرَ اللهُ بهِ وَانتِهاءٌ عَمَّا نَهى عَنهُ فإذا حَصَلَ الانتِهاءُ
بالحَياءِ كانَ بَعـضُ الإيمان:: كَمَا أنَ بـِنْتَ شُعَيْب دَلالـةً أنَـها تَمْشِيَ
مِشْيَ الحَرائِر اسْتِحياءً (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَاسَقَيْتَ)
فلّما دَخَـلَ مُوسى عَلى شُعيبٍ: قـالَ لـهُ ما خَطْبُكَ يا شاب, فلَـمْ يَـبْقَ
لِمُوسى عِـذرٌ إلاَّ وَيَسِرُهُ بِمَكْنُونِ مَا أصابَـهُ, فَطْمَأنَـهُ وَقـالَ, شُعَيب
(لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(القصص:25) وَأنَتَ الآن في
حَرْمٍٍ آمِـنٍ, ولاَ سُلطانَ لِفرعَوْنَ على مَديَن, هَدأتْ نفسُ مُوسى في
مَنزلِ نبِّي اللهِ شُعَيب, وَكانَ مُهَيّأ لَهُ طعامٌ فَقدَمَهُ إليهِ, قالَ أنَّا ليسَ
مِـنْ قـوْمٍٍ تَمِـدُّ أيدِيَهُم إلى طـَعامٍ جَعلْتِمُوهُ عِـوَضاً عَـمَا سَقـيْتُ لكُـم
أغنامَكُم,, فأثـارَ في نَفـسِ شُعَـيب وَبنتَيْه عَوامِل الأدَب وَالإعجاب
بمُوسى بمَا زانَهُ الله بهِ مِنْ طَبْعٍ وخُلِقٍٍ عَظِيمٍ,,
((فالقِصَةُ هُنا يَا عَزيزي طَويلَة الآثار وَالمَعنى لِذا نَقتَصِرُ بُعدَها))
وَنَقُول بَعدَ أنْ زَوَجَ شُعَيبُ مُوسى ابْنَتَهُ: وَقالَ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنَِ)
ثُمَ قالَ شُعيب (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فوافقََهُ مُوسى وَقـالَ
إنشاءَ اللهُ سَوفَ تَرانِي قويٌ بمُناصَرَتِكَ: عَزيزٌ بِمُؤازرَتِكَ, حَريصٌ
عَلى شأنِكَ لِقَضاءِ الأجَلَينِ عَشرُ سِنينٍ كامِلاتٍ برعايَتِكَ,,
وَتَزوَجَ مُوسى بإحـدى البنتَينِ فِي بَـيْتِ شُعَيْب ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى
الْأَجَلَ) بإتمامِ الأجَلَينِ جَمَعَ أشْتاتَ مَتاعَهُ وَهَـيأَ رٍِِحلَهُ لِيُغادِر بأهْلِهِ
إلى وَطَنِهِ مِصْرَ وقدْ وهَبَ شُعَيب أغناماً لَهُ خالِصَةً سائِغَةً ( وَسَارَ
بِأَهْلِهِ ) لَيلاً: وبَينَمَا هُـوَ كَذلِك أُظّلَ عَليهِ الطريق وَهُوَ عَلى مَقرَبـةٍ
مِنْ طـُورِِ سِيناءَ في لَيلةِ شِتائِهِ شَدِيدُ البَردِ, وأخذّت السَماءُ تَرعِـدُ
وتَمْطِرُ مَطَراً غزيراً, فأنزَلَ رِحالَـهُ حِينَ حـانَ على امرَأتِـهِ الطَلَـق
وتَحَيرَ في أمْرِهِ يَتأمَلُ رَحمَةَ ربَّهُ الكَريم بِمَا قامَ وَقَعَـدَ ( قَالَ لِأَهْلِـهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)
المَكْثُ والمُكثْ هُوَ الإقامَةُ مَعَ الانْتظارِ والتَّلَبُّثُ في المَكانِ وَأجْلَسَ
أهْلَهُ وَقالَ: مِمَّن أجِدُ لِيَهدِيَنِّي الطريق, أوْ آتِيكُم بقِطْعَةٍ ( مِنَ النَّـارِ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(القصص:29) بِحَّرِها مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ (فَلَمَّا أَتَـاهَا)
رأى نُوراً عَظِيماً لمْ يَرَهُ مِن قبلُ يَسْتَطِعُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ عَظيمَةٍ
فتَحَيرَ مُوسى فِي أمْرِهٍ وَأوْجَسَ في نَفسِهِ خِيفَةً وَارتَعَدَّتْ مَشاعِرَهُ
حِينَ رأى تِلكَ النارِ العظيمَةِ التِي لَيْسَ لها دُخان فوَلى هاربـاً, وَإذا
الصَوتُ مِـنْ وراءِهِ قـدْ صَكَ مَسامِعَهُ (أَنْ يَا مُوسَى) التَفتَ وَلمْ يَّـرَ
أحَداً فتَذّكرَ حاجَتَهُ ودّنَى لِيَقتَبسَ مِنها, فتَأخَرَت النارُ عَنـهُ وَرَجَعَت
حَتى جاءَهُ الحَّق يُهَلْهِلُ (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(القصص:30)
المالِكُ المُدَبرُ الخالِقُ العَزيزُ الرَحِيمُ الذِي يَسْتَحِق العبادَة,,
قالَ مُوسى, وَمَا الدَلِيلُ عَلى ذلِك, قالَ سُبْحانَهُ تَعالى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)
أنـتَ الآنُ بحَّضَـرٍٍ مِنِّي أُكَلِمُـكَ, وَأريـدُ أن أصْطَفِيكَ لِكَلِمَتِي رَسُـولاً
(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) احتِراماً لأنَنِي آمَنتُكَ وجَعَلْتُ مَا فِي يَمينِكَ يَأفـكُ مَنْ
تَخافَ مِنهُ (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) الطاهِرُ الذِي لنْ يُصِيبُكَ مِنهُ
ضَـررٌ ولاَ زَجْـرٌ,, هـذا الوادِي المُقَدَسُ الـذِي قـُدِسَت فِـيهِ الأرواحُ
وَاصْطَفَت فِيهِ المَلائِكَةُ وكَلَمتُكَ فِيهِ تَكْلِيماً,,
فَعرَفَ مُوسى مِنْ نِداءِ اللهِ أخَصَهُ بِآيَتَيْنِ وبهذا جَعلَ اللهُ تَعالى عِلَةَ
المَعلُول أنْ تَخـرُجَ يَـدُ مُوسى بَِيضاءً مِنْ غَـيرِ سُـوءٍ أمامَ فِـرعُوْنَ
لِيَنشَغِلَ بِنُورِها وَيَنسى أثار حكُم القَتل بِمُوسى,,
ونَقُول هُمَا مُعجِزَتانُ تِلكَ واحِدَةٌ وأُخْرى ذكَرَها اللـَّهُ لِمُوسى: وَقالَ
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) (17) فأجابَ مُوسى كَمَـا يُجِيب غـيْرَهُ
مِنَ الناسِ عَلى نِيَّـةِ قلْبٍ (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُـشُّ بِهَا
عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى) (18) فسُبْحانَهُ تَعالى أرادَ مِنْ
مُوسى أنْ يَنطَلِقَ بمَقصُودِهِ لِيَتَذَكَرَ خَصائِص العَصا وَفَوائِدُها التِي
تَهِمَهُ مِنْ مَنافِعٍ لَهُ (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى) سَوْفَ تُبَيِّنَ أمامَكَ الفَوارِقُ
بِمُعْجَزِها (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)(طه:20) فلَمَّا رآها قـدْ نَمَتْ
وَعظَمَّـت مِـنْ ضِخامَـةِ الثـُعبانِ ( كَأَنَّهَا جَـانٌّ ) فِـي سِرعَـةِ حَركَتِها
وخُفَتِها وَهِيَّ مُفاعِلَةٌ مِنَ السَّعِيِ لِمُداهَمَةِ القَوْمَ الكافِرينَ وَقَد يَكُونَ
السَّعيُ مَشْياً سَريعاً، أوْ يَكُونَ عَمَلاً وَتَصرُفاً, أوْ قصْداً عَلى كُلِّ مَنْ
تَعرَضَ مُوسى بِأذى, فَنُسِبَتْ ( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) لِسِرعَتِها وَقوَتِهِا ألتِي
ليْسَ لَها حِدُودٌٌ بِخَرقِهِم وَقَتلِهِم,,
بَلْ: إنَها حَيَةٌ سَوداءٌ مُدْلهِمَةٌ تَدُبُ عَلى أربَعِِ قوائِمٍ, وَلَها أثنا عَشرَ
ناباً, يَخْرجُ مِنها لهَبُ النـار, يَهِّبُ مَّـنْ فِيها ريح السُمُوم لا يَصِيب
شَيئاً إلاَ أحرَقََتهُ ( فَلَمَّا رَآهَا ) مُوسى (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِـراً
وَلَمْ يُعَقِّبْ) خائِفاً أوْ يَعُد مُتَرَدِداً حَتى جاءَهُ النِداءُ وَقالَ ( يَا مُوسَى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)(القصص:31) أي لاَ يُصيبـُكَ مِنها
أيُ ضَـرَرٍ أوْ سُـوءٍ (قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْـأُولَى)
(طـه:21) أي نَرْجَعها كَمَا هِيَّ عَصا تَتَوَكَأَ عَليْها, وَلا نَنغِصُ مِنها
مَا كانَ عَليْها فِي أوَلِها مِنْ مَآربٍ لَكَ فِيها, فَإنَ لِهذِهِ العَصا مَعاجِـزٌ
شَتى مِنْ غَيرِ ما يُذكَر انفِلاقُ البَحَرِ وَتَفجِيرِ العِيُونِ,,
هذِهِ العَصا التِي هِيَّ خَشَبَةٌ فِي نَظَرِ المَخلُوقِِ فِيها مَآرِبٌ جَعلُها اللهُ
لِمُوسى, فإذا احتاجَ نوْعاً مِنْ ثِمارِ الفَاكِهَةِ غَرَزَ عَصاهُ في الأرْضِ
فَتَغَصَّنَتْ أغصانُها وَأثمَرَتْ فاكِهَتُها لَهُ مِنْ ساعَتِها وَإذا أرادَ حاجَتَهُ
مِنَ الماءِ أدَّلَها في البِئْـرِ فَجُعِلَّت تَمْتَـدُ إلى قََعرِهِ وَتَصِيرُ فِي شُعبَتِها
دَلْواً لِيُسْقِيهِ: وَإذا رَأى عَـدواً حَرَكَها فَيَخرِجُ مِنْ فَمِها نـارَ السِمُومِ
وَإذا أرادَ عبُورَ نَهـْرٍ بَـلا سَفينَةٍ ضَرَبَهُ بِعَصاه فَبَدا لَـهُ طَريقاً يَبْـساً
يَمْشِي فِيهِ,, وَإذا عَـيا فِي طَريقِهِ القَصِيُ رَكَبَ عَصاهُ فَتَحَّولَتْ إلى
دابَةٍ ذَلـُولٍ وَسارَتْ بـهِ إلى أيِ مَوْضِعٍ شاءَ,, وَمِنْ ثـُمَ أكرَمَهُ رَبَّـهُ
بمُعجزَةٍ أخرى: وَقالَ (اسْلُكْ يَـدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ ) فأخرَجَ مُوسى يـَدَهُ وكُشِفَت لـَهُ الدُنيا دَياجِيرَ الظّلام ( فَذَلكَ
بُرْهَانَانِ) أي: دَلِيلانُ ومِـنْ دَلائِـلِِ المَعاجـزِ الكُبْرى ( مِنْ رَبِّـكَ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (القصص:32) الخارجينَ
عَن طاعَةِ اللهِ تَعالى, فتِلكَ المُعجزَتَيْنِ جَعَلَهُُما اللهُ لَكَ أمْراً ما بَعدَهُ
أمْرٍ, تَثبيتاً لِقلْبِكَ وتَمْكِيناً لِرسالتِكَ وَتَهْنِئَةً برَفعِ صَوْتِكَ عالِياً وَهُمَا
سَيفـكَ القاطِعُ الذِي يُمَزِق حجـُب الزَيغِ وَالظّلال: حَتى قالَ ( اذْهَبْ
أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَـنِيَا فِي ذِكْرِي ) (طـه:42) أيْ: وَلاَ تَتـرُكَ
مَا أمَرْتُكَ مِنْ | |
|