هو الحرّ بن يزيد بن ناجية بن سعد من بني رباح بن يربوع من أصحاب الحسين (عليه السلام).
كان من رؤساء الكوفة، شريفاً في قومه جاهلية و إسلاماً، أرسله ابن زياد من القادسية أميراً على ألف فارس يستقبل بهم الحسين لئلاّ يدخل الكوفة. و جعله ابن سعد يوم عاشوراء على ربع تميم و همدان.
و يفهم من كلام المؤرخين أن الحرّ كان مع الحصين بن تميم بالقادسية، أخرجه ابن زياد في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ليمنعه من دخول الكوفة.
روى أبو مخنف و ابن طاوس في (كتاب الملهوف) قالا: كنّا نساير الحسين، فنزل الحسين (شراف)، فلما كان السحر أمر فتيانه باستقاء الماء و الإكثار منه ففعلوا ثمّ ساروا صباحاً فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار. فكبّر رجل منهم. فقال الحسين (عليه السلام): الله اكبر لم كبّرت؟ قال: رأيت النخل، قالا: فقلنا إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، قال: فما ترونه؟ قالوا: نراه والله أسنة الرماح و آذان الخيل! قال: و أنا والله أرى ذلك. ثم قال الحسين: أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا و نستقبل القوم من وجه واحد؟ قالوا: بلى! هذا ذو حسم ـ و هو اسم موضع ـ عن يسارك تميل إليه فإن سبقت القوم فهو كما تريد فأخذ ذات اليسار، فما كان بأسرع من أن طلعت هوادي الخيل فتبيّناها فعدلنا عنهم، فلما رأونا عدلنا عدلوا معنا كأن أسنتهم اليعاسيب و كأن راياتهم أجنحة الطير فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه، و أمر الحسين بأبنيته فضربت. و جاء القوم زهاء ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميميّ حتى وقف هو و خيله في حرّ الظهيرة و الحسين و أصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: أسقوا القوم وأرووهم من الماء و رشفوا الخيل ترشيفاً فأقبلوا يملأون القصاع و الطاس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه، و سقوا آخر، حتى سقوها عن آخرها. و كانت ملاقاة الحرّ للحسين على مرحلتين من الكوفة.
فقال له الحسين: ألنا أم علينا؟
قال: بل عليك يا أبا عبدالله!
فقال الحسين: لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم، فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين (عليه السلام) حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجّاج بن مسروق الجعفي ـ و كان معه ـ أن يؤذّن، فأذّن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين (عليه السلام) في إزار و رداء و نعلين فخطبهم و قال من جملة خطبته: «اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم أن أقدم علينا لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى و الحق، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، و إن كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه». فسكتوا، فقال للمؤذّن: أقم، فأقام الصلاة فقال للحرّ: أتريد أن تصلي بأصحابك؟
قال: لا، بل تصلي أنت و نصلي بصلاتك.
فصلّى بهم الحسين (عليه السلام)، ثم دخل مضربه و اجتمع إليه أصحابه، و دخل الحرّ خيمة نصبت له و اجتمع عليه جماعة من أصحابه و عاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته و جلس في ظلها، فلما كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السلام) فنادى بالعصر و أقام فاستقدم الحسين (عليه السلام) وقام فصلّى ثم سلّم و انصرف إليهم بوجهه و خطبهم و قال في جملة كلامه: «…و نحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، و السائرين فيكم بالجور و العدوان، و إن أبيتم إلا الكراهية لنا و الجهل بحقّنا، و كان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، انصرفت عنكم». فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب و الرسل التي تذكر. فقال الحسين (عليه السلام) لبعض أصحابه: يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه. فقال له الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، و قد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله.
فقال له الحسين (عليه السلام): الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا فركبوا و انتظر هو حتى ركبت نساؤه، فقال لأصحابه انصرفوا. فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم و بين الانصراف، فقال الحسين (عليه السلام) للحرّ: ثكلتك أمّك ما تريد؟ فقال له الحرّ: أمّا لو غيرك من العرب يقولها لي و هو على مثل هذه الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائناً من كان، و لكن والله مالي إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه.
فقال له الحسين (عليه السلام): فما تريد؟
قال: أريد أن انطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد.
فقال: إذن والله لا أتبعك.
قال: إذن والله لا أدعك.
فترادّا القول ثلاث مرّات، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إني لم أؤمر بقتالك إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة و لا يردّك إلى المدينة يكون بيني و بينك نصفاً حتى أكتب إلى ابن زياد، و تكتب إلى يزيد إن شئت أو إلى ابن زياد ان شئت، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فخذها هنا فتياسر عن طريق العذيب و القادسية. فتياسر الحسين عليه السلام و بينه و بين العذيب ثمانية و ثلاثون ميلاً و سار و الحرّ يسايره. فقال له الحرّ: إني أذكّرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، و لئن قوتلت لتهلكنّ فيما أرى.
فقال له الحسين (عليه السلام): «أفبالموت تخوّفني؟ و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك! و لكني أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه حين لقيه و هو يريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم) فخوّفه ابن عمه، و قال: أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال:
سأمضي و ما بالموت عار على الفتى ــــــ إذا ما نوى حقاً و جاهد مسلما
و آسى الرجال الصالحين بنفسه ــــــــــــــ و فارق مثبوراً و باعد مجرما
فإن عشت لم أندم و إن متّ لم ألم ـــــــــــ كفى بك ذلاً أن تعيش و ترغما
فلما سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه و جعل يسير ناحية عن الحسين (عليه السلام) حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات، فإذا بهم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسين و معهم دليلهم الطرمّاح، فأتوا إلى الحسين و سلّموا عليه، فأقبل الحر و قال: إن هؤلاء النفر الذين جاءوا من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك و أنا حابسهم أو رادّهم.
فقال الحسين (عليه السلام): «لأمنعنّهم ممّا أمنع منه نفسي! إنما هؤلاء أنصاري و أعواني، و قد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشيء حتى يأتيك جواب عبيد الله»؟
فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك.
قال (عليه السلام): «هم أصحابي و هم بمنزلة من جاء معي فإن بقيت على ما كان بيني و بينك و إلاّ ناجزتك». فكفّ عنهم الحرّ.
و لم يزل الحسين (عليه السلام) سائراً حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل، ثم ارتحل؛ فأخذ يتياسر بأصحابه فيأتيه الحرّ فيردّه و أصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه و ارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون حتى انتهوا إلى نينوى. فإذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكّب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا ينتظرونه جميعاً فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ و أصحابه و لم يسلّم على الحسين (عليه السلام) و أصحابه فإذا هو مالك بن النسر الكندي، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيدالله، فإذا فيه: أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي و يقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن و على غير ماء، و قد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري و السلام. فلما قرأ الكتاب جاء به إلى الحسين (عليه السلام) و معه الرسول فقال: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجمعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، و هذا رسوله قد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه و أمره، و أخذهم بالنزول في ذلك، المكان.
فقال له الحسين: «دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه» يعني نينوى و الغاضرية «أو هذه» يعني سُفيّة ـ قال لا و الله لا أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً، ثم أن الحسين (عليه السلام) قام وركب و كلما أراد المسير يمنعونه تارة و يسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء.
قال أبو مخنف: لما اجتمعت الجيوش بكربلاء لقتال الحسين (عليه السلام) جعل ابن سعد على كل ربع من الأرباع أميراً. فكان على تميم و همدان الحرّ بن يزيد فشهد هؤلاء الأمراء قتال الحسين (عليه السلام) إلا الحر فإنه عدل إليه و قتل معه.