من الأبحاث الأساسية التي وقع النزاع فيها كثيراً على مرّ تاريخ الإنسان الطويل: هل يمكن الاعتماد على نتائج الاستدلالات العقلية في مختلف المجالات الفكرية والعقدية؟
والواقع: إنّ هذا النزاع:
تارةً يمكن تصويره بين الاتّجاه الحسّي الذي لا يؤمن إلاّ بنتائج العلوم الطبيعية القائمة على أساس المنهج التجريبي، وبين الاتّجاه العقلي الذي ذهب إليه الفلاسفة عموماً حيث آمنوا بإمكان الاعتماد على نتائج العلوم العقلية القائمة على أساس المنطق الأرسطي.
وأُخرى بين الاتّجاه الذي يصرّ على الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنّة والاجتناب عن تعاطي الأُصول المنطقية والعقلية لفهم المعارف الدينية عموماً، وبين الاتّجاه الذي يعتقد أنّ الكتاب والسنّة هما الداعيان إلى التوسّع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة، وهي المقدّمات البديهية أو المتّكئة على البديهية. قبل هذا وذاك لابدّ من تعريف العقل، وماذا يراد به في مثل هذه الأبحاث؟
يطلق اسم العقل بالاشتراك على أربعة معان:
1. الوصف الذي به يفارق الإنسان سائر البهائم، وهو الذي به استعدّ لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفيّة الفكرية، وهو الذي أراده الحارث المحاسبي حيث قال في حدّ العقل: إنّه غريزة يتهيّأ بها إدراك العلوم النظرية وتدبير الصناعات، وكأنّه نور يقذف في القلب، به يستعدّ لإدراك الأشياء، فإنّ الغافل عن العلوم والنائم يسمّيان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة مع فقد العلوم . وكما أنّ الحياة غريزة بها يتهيّأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسّية ، فكذلك العقل غريزة بها يتهيّأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية. ويمكن تشبيه ذلك بالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان؛ لصفة اختصّت بها وهي الصقالة، وكذلك العين تفارق الأعضاء بصفة غريزية بها استعدّت للرؤية. فنسبة هذه الغريزة في استعدادها لانكشاف العلوم كنسبة المرآة إلى صور الألوان ونسبة العين إلى صور المرئيات.
والعقل بهذا المعنى يستعمله الفلاسفة في كتاب البرهان ويعنون به قوّة النفس التي بها يحصل اليقين بالمقدّمات الصادقة الضرورية.
2. علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإنّ من حنّكته التجارب وهذّبته المذاهب يقال: إنّه عاقل في العادة، ومن لا يتّصف بذلك يقال: إنّه غبيّ جاهل. (ومرجعه إلى جودة الرويّة وسرعة التفطّن في استنباط ما ينبغي أن يؤثر أو يتجنّب، وإن كان في باب الأغراض الدنياوية وهوى النفس الأمّارة بالسوء، فإنّ الناس يسمّون من له هذه الرويّة المذكورة عاقلاً، أمّا أهل الحقّ فلا يسمّون هذه الحالة عقلاً بل أسماء أُخر كالدهاء أو الشيطنة وغيرهما)1.
3. (أن ينتهي قوّة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأُمور، فيقمع الشهوة الداعية إلى اللذّة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوّة سمّي صاحبها عاقلاً بحيث إنّ إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة، وهذا أيضاً من خواصّ الإنسان التي يتميّز بها عن سائر الحيوانات)2.
وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: (ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان)3. قال المجلسي في (مرآة العقول): (والمراد من العقل، ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشرور والمضارّ، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية)4.
4. (وهو المذكور في كتاب الإلهيات ومعرفة الربوبيات، وهو الموجود الذي لا تعلّق له بشيء إلاّ بمبدعه وهو الله القيّوم، فلا تعلّق له بموضوع كالعرض ولا بمادّة كالصورة ولا ببدن كالنفس، وليس له كمال بالقوّة، ولا في ذاته جهة من جهات العدم والإمكان والقصور إلاّ ما صار منجبراً بوجوب وجود الحقّ تعالى، ولهذا يقال لعالمه عالم الجبروت، وكلّه نور وخير لا يشوبه شوب ظلمة وشرّ إلاّ ما احتجب بسطوة الضوء الأحدي وهو أمر الله وكلمته)5 وهذا هو الذي ورد في الروايات (أوّل ما خلق الله العقل).
عن سماعة بن مهران قال: (قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فأقبل، فقال الله خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي...)6.
يتبع