جرحها الغائر لا يزال ينزف حزنا، آلامها ينابيع لا تنضب أبدا، مرارة فراق الأحبة لا تكاد تفارقها، أين الجموع من تشييد مشاعرها ؟! مشاهد تشييع الشهداء بشكل يومي مسحت ذكرى أبنائها من العقول، وتكرار العزاء بين هنا وهناك أودى بالحزن عليهم من القلوب، ذكراهم باتت بين جوانحها فقط، والحزن عليهم صار حيا في فؤادها، لم تشعر باللوم اتجاه أحد، بل تشعر بجام الغضب يصب نحو المعتدين، أحزانها المتراكمة ملأت قلوب الكثيرات، فكم من عروس اغتيلت فرحتها ليلة عرسها، وكم من امرأة فجعت بابنها بين عشية وضحاها، وكم من طفلة تسأل بصمت عن أبيها، لم يتبق بيت لم يفجع بغال لديه، ولم تسلم عائلة من مرور مراسم العزاء عندها .
بالرغم من تجرعها للحزن مرات عديدة، إلا أن أصعبها على نفسها يوم فقدان ابنها عمر، ليس لأنه الأغلى بينهم، بل لعل السبب في استشهاده أمام عينها، تلك اللحظات الأليمة أصبحت كابوسا يطاردها ليلا و نهارا، وصارت دمعتها تسابق ذاكرتها في استحضار ذلك الموقف الحزين، لن تنسى الساعة التي أحضروا فيها آلاتهم الضخمة لهدم بيتها، كانت تحمد الله كل لحظة على أنه لم يكن موجود، ولكنها لم تفرح بذلك سوى لحظات معدودة، قدم إليها وهو يزمجر غاضبا، لقد استقبله الصبية بالخبر، كان يتوعد ويهدد، حاولت جاهدة تهدئته ولكن محاولاتها ذهبت أدراج الرياح .
تفكرت في مشاعرها، وتساءلت عن موقفها، إنها لم تجبن ولم تخف، لقد أعدت زوجها فيما مضى، وكانت تحد إخوة عمر على مواصلة النضال، ولكن هذه المرة مختلفة تماما، هذه المرة تشعر بالخوف من تصديه لهم، إنه يواجههم كل مرة مع رفاقه، يلقي بمحتوى يديه ويختبئ يعيد الكرة مرات ومرات، يمد الرفاق بالحجارة، ويساعد الجرحى، ويعود غليها وهو ينفض غبار المعركة عن ملابسه، لكن هذه المرة مواجهة فردية، ومعركة غير متكافئة، ونتيجة محسومة مسبقا، لم تعد تتحمل صدمة جديدة، جراح أحبتها لم تندمل بعد .
هدأ الوضع لدقائق معدودة، لم تعد تسمع شيئا، فمرة تمسح أركان غرفتها ذهابا و إيابا، ومرة تفترش سجادتها وتدعو الله تعالى، خرجت إلى حجرته، استرقت السمع، الوضع هادئ، عادت إلى مكانها على أمل أن يستمر السكون .
ذهبت إلى حجرته مرة أخرى، كانت تتمنى أن يكون كعادته خرج مع رفاقه، فتحت الباب، لكنها وجدته قد فح نافذة حجرته يترقب عودتهم، وكأنما قد أعد العدة لمواجهتهم، صرخت في وجهه معترضة على بقائه هكذا، فالتفت إليها بيديه الخاليتين وأجابها بأنه سيواجه طغيانهم بإيمانه، بجسده، بروحه، وأنه هنا ومع كل هذه الأشياء مجاهدكما لو كان بين رفاقه يحمل الحجارة ويرشق بها أولئك الأوغاد، وإن كانت يديه خاليتي الوفاض فيكفيه قلبه الذي ملأه الإيمان .
خرجت من حجرته، ومن ثم غادرت المنزل على عجل، كانت تنادي بأعلى صوتها، أصدقاء زوجها، أصدقاء أبنائها، معارفها، جيرانها، نظراتها الحزينة أوحت لهم بالحقيقة المرة، الدور على بيتها إذا، تعرف مسبقا أنها ستخسر البيت، ولكن محاولاتها إنما هي للحفاظ على صاحب البيت فقط، نداؤها يمزق نياط القلوب، وصوتها يحرك الأفئدة، لعله يتراجع عن قراره، مجابهتهم تعني الموت، لا بأس بجهاده اليومي، مناضل يذهب وعلى أمل أن يعود، ولكن الوضع مختلف الآن، المواجهة فردية لقوى الظلم والعدوان، خرج بدوره، لثم جبينها، وقبل يديها ، ونظر أليها معاتبا، وبادرها بقوله :
أين أبي ؟ أين إخوتي ؟ أين الكثير من أحبتي ؟ ألم يسقط بعضهم مدافعا عن الأرض ؟ أننسى من استشهد في عمل فدائي ؟ ألا تتذكرين من دخل المعتقل على رجليه، وخرج منه جثة هامدة، هل ترضين لي بالذل والهوان ؟ هل أجبن دونا عن الجميع ؟ أمي الحبيبة، إننا بحاجة لمن يحارب قراراهم الجبانة، لابد لم أن يعرفوا أننا لن نستسلم، و أننا سنتصدى لهم في كل حركة، وسنكون أمامهم، دائما حقا سيكون الثمن عاليا، ولكن لا بأس، القدس غالية، وتراب أرضنا الطاهر يستحق أكثر .
استسلمت لجوابه، واستودعته الله عز وجل، ونظرت إليه نظرة المودعة، ورفعت يديها تدعو إليه بحرارة، وذرفت الدموع الحارقة، وتذكرت المقدسات، والأرض، والأعداد الهائلة من الشهداء، أقنعت نفسها بصخة رده، وسمو هدفه، و أخلت بينه وبين ما يريد .