بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام ليس بالأمر اليسير؛ لأننا نتحدث عن شخصية إسلامية فذة وعملاقة، استطاعت أن تثبت قواعد الدين الإسلامي الحنيف، وتقدم الإسلام للأمة ناصعاً، نقياً، متألقاً من خلال مدرسة أهل البيت عليهم السلام، تلك المدرسة التي فتح الإمام الصادق عليه السلام بابها على مصراعيه لكافة عشاق الإسلام والمتطلعين إلى فهم الحقيقة وادراكها بعد أن حاول الطغاة والمستبدون من الأمويين والعباسيين أن يمحو معالم هذه المدرسة ويغلقوا أبوابها إلى الأبد، لقد تمكن الإمام الصادق عليه السلام ـ بما يملك من علم غزير، وذهن وقاد وحكمة رائعة وأناة وأسلوب عمل مدروس ناجح، وصبر على الشدائد والأهوال ـ أن يرسم معالم هذه المدرسة الأصيلة، ويسمع صوتها إلى كل العالم رغم ما يمتلكه المناهضون من امكانات لا تحصر ووسائل ارهاب وتضليل.
الإمام الصادق هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام سادس أئمة أهل البيت عليهم السلام ولد بالمدينة المنورة سنة 85 هـ وقيل 83 هـ والتاريخ الأول أصح حسب بعض الروايات، وكانت ولادته عليه السلام في عام الجحاف؛ وهو العام الذي جاء فيه سيل بمكة ذهب بالحجاج فغرقت بيوت مكة فسمي ذلك العام الجحاف لأن ذلك السيل جحف كل شيء مر به)
أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكرالصادق عليه السلام: «لقد ولدني أبو بكر مرتين»( كنيته أبو عبد الله، وقيل أبو إسماعيل، إلاّ أنّ الأولى أشهر، ويلقب بالصادق والصابر والفاضل والطاهر واشتهر بالصادق لصدق حديثه عليه السلام عام 148 هـ أو 149 هـ ، ويبدو أن التاريخ الأول هو الأقوى وقد أكد عليه المسعودي في (مروج الذهب) بقوله: لعشر سنين خلت من خلافة المنصور توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب سنة 148 هـ، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده وعاش 68 سنة بناء على رواية ولادته عام 83 هـ ـ، وقيل إنّه سُمّ. وكان على قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبيد الأمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام وبدأت امامة الصادق عليه السلام بعد وفاة أبيه عام 117 هـ وقد أمضى منها 15 عاماً في حكم الأمويين، حيث عاصر هشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن الوليد الملقب بالناقص، وإبراهيم بن الوليد ومروان الملقب بالحمار آخر خليفة أموي، والسنين الباقية من حياته في عهد السفاح والمنصور العباسيين
لقد بدأ الإمام الصادق عليه السلام إمامته في ظل مرحلة انتقالية، أي مرحلة انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين، وهي مرحلة ذهبية ولا شك بالنسبة للإمام الصادق عليه السلام حيث إنّ الحياة السياسية غير المستقرة تعني في جملة ما تعنيه انشغال السلطة عنه وعن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ مما يسمح له بالتحرك بحرية لأداء الرسالة الملقاة على عاتقه والنهوض بالمسؤوليات الجسام وفي مقدمتها الكشف عن الوجه الإسلامي الناصع، وطرح الاسلام على حقيقته وتعريف الناس به، وازاحة كل زيف وزيغ وضلال حاولت السلطة الأموية المنقرضة أن تقدمه للناس على أنه الإسلام!
لقد وجد الإمام الصادق عليه السلام في انحسار الكابوس الأموي الذي كان يلاحق بسيفه آل البيت وأنصارهم ومحبيهم وكل من يشم ولاؤه لهم، لقد وجد الإمام الصادق عليه السّلام في تلك المرحلة التي أسميناها بالانتقالية فرصة عظيمة لم تسنح للأئمة الذين سبقوه، لكي يتقدم بخطوات وئيدة ومتزنة على طريق الكشف عن كنوز المدرسة العلوية التي تمثل الامتداد الطبيعي للإسلام ولنهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وانبرى الإمام الصادق عليه السلام لممارسة دوره الإلهي، ولكن ليس على صعيد رسم ملامح مدرسة أهل البيت فحسب، بل على صعيد مجابهة بعض التيارات الفكرية كالزنادقة والغلاة والتيارات الأخرى كأهل الرأي والدهريين والجدلين وغيرهم... هذا في وقت وصل فيه الضمير الإسلامي إلى درجة كبيرة من الجمود والغفلة ?غير أن تلك الفترة الانتقالية لم تدم طويلاً، سيما بعد وفاة أبي العباس السفاح ومجيء أخيه المنصور، فقد واجه الإمام الصادق عليه السلام في عصره المحن والشدائد ما لم يواجهه في العهد الأموي، وكان وجوده ثقيلاً عليه لأنه أينما ذهب وحيثما حل يراه حديث الجماهير، ويرى العلماء وطلاب العلم يتزاحمون من كل حدب وصوب على بابه في مدينة الرسول يزودهم بتعاليمه ويلقي عليهم دروسه وارشاداته .لهذا كان العباسيون أشد وطئاً على أهل البيت من الأمويين.. فقربوا اليهم جماعة من العلماء، وفرضوا على الناس آراءهم بالسيف ليصرفوهم عن آراء الأئمة من أهل البيت وفقههم... حتى إنّ الأمر قد وصل بالمنصور أن يأمر مالك بن أنس: «افت برأي من شئت من الصحابة ولا تفتين برأي علي وابن عباس»
وقد أذكت الأحقاد والوشايات تلك النزعة الارهابية والممارسات القائمة على الظلم الموجه نحو آل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم الإمام الصادق عليه السلام وكان الناس يتقربون بتلك الوشايات إلى الخليفة العباسي «فلا حرمة للنفوس ولا قيمة للدين ولا نظام يشمل الرعية، بل هي فوضى، والأمراء يحكمون بما شاؤوا والرعية بين أيديهم العوبة لأغراضهم»
وكان المنصور العباسي لا يرى لملكه بقاءً إن بقي أحد من آل محمد في الوجود، وكان الفتك بهم هو شغله الشاغل ولا يتوقف عن تنفيذ ارادته مهما كلفه الأمر وكان يقظاً لا يفوته ما لجعفر بن محمد من المنزلة في المجتمع، ويعظم عليه اتجاه
الأنظار إليه... فهو على حذر دائم لأنه يعرف مقام الإمام ومنزلته العلمية ومكانته الاجتماعية
يتبــع