صلاة الليل فلسفتها ومعطياتها
صحيح الموضوع طويل بس فوائده لاتعد ولا تحصى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.*
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بماكانوا يعملون﴾[1] صدق الله العلي العظيم.
حديثنا عن صلاة الليل يدور حول محورين:
المحور الأول: الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل.
المحور الثاني: معطيات صلاة الليل.
فلسفة صلاة الليل
أما بالنسبة للمحور الأول؛ فربما يبدو لنا –والله أعلم بحقائق الأمور - أن الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل ترتبط- بنوع من الارتباط- بالفلسفة الرئيسية لخلقة الإنسان.
فياترى لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى؟ ثمة آية قرآنية كريمة تجيب على هذا السؤال بوضوح، وهي قوله تعالى: ﴿وماخلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون﴾[2]
إن هذه الجملة القرآنية؛ ووفقاً للاصطلاح الأدبي يقال لها: جملة حصر، وجملة الحصر في اللغة تنحلّ إلى عقدين: عقد إيجابي، وعقد سلبي، فالعقد الإيجابي لهذه الجملة أن الله خلق الجن والإنس للعبادة، أما العقد السلبي فهو أن خلق الجن والإنس لم يكن لأي هدف آخر غير العبادة.
وبناء على ذلك؛ فإن أي تصرّف يصدر عنا - نحن البشر – خارج إطار العبادة، فهو خارج عن إطار الهدف من خلقتنا، تماماً كذاك الطالب الذي يدخل قاعة الامتحان ليمتحن، فما يصدر عنه من التصرفات لايمكن عدّها جزءاً من فلسفة وجوده في القاعة، إلاّ أن تكون متعلّقة بشكل من الأشكال بالهدف من دخوله القاعة، وهو الامتحان.
فتناولنا الطعام نحن البشر لا يصحّ عدّه هدفاً لوجودنا في الحياة، إلا إذا ربطناه بحقيقة الهدف من خلقتنا، وهي العبادة، وإن لم نجعله كذلك فهو لا يعدو كونه تضييعاً للحكمة من وجودنا، تماماً كمن يهاجر إلى بلاد الغربة للدراسة فيضيع وقته في الاكل والشرب والنوم واللعب، وحينما يعود إلى وطنه يعتريه الندم على ما فرّط في تلك البلاد...وهكذا بالنسبة الى سائر الأمور
إذن؛ فالهدف من الخلقة هو العبادة، وليس الهدف أي شيء آخر.
هنالك من يقول إن العبادة ممارسة تختصّ بالشيوخ والعجائز، ولكن: اذا كان الأمر كذلك فلماذا وقف رسول الله صلى الله عليه وآله على أطراف أصابعه يعبد ربه حتى تورّمت قدماه؟[3]
ولماذا اقتدت الصديقة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها بأبيها في ذلك؟[4]
ولماذا حجّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ماشياً خمساً وعشرين مرة؟[5]
وما هو السر وراء قول الإمام الحسين عليه السلام لأخيه أبي الفضل العباس عليه السلام في ليلة عاشوراء: اذهب إلى هؤلاء القوم – الجيش الأموي - واستمهلهم؛ لعلنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار[6]، وقد بات أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في ليلة عاشوراء ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد؟ [7]
أما الإمام موسى الكاظم عليه السلام فقد كان يقول في سجن هارون العباسي: «اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك اللهم وقد فعلتَ، فلك الحمد»[8] وكانت له عليه السلام سجدة من بعد طلوع الشمس حتى الظهر[9]، الى غير ذلك مما نقلته النصوص التاريخية عن عبادة الأنبياء والأئمة والصالحين صلوات الله عليهم أجمعين.
نعم! هناك عبادة بالمعنى الأعم، فكل شيء ينتهي إلى الله تعالى، فهو عبادة ، ولكن ما سردناه من عبادة الأئمة عليهم السلام وجدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله يدلّ على أن هناك أيضاً عبادة بالمعنى الأخص، وقد كان لها موقع مهمّ في حياتهم (صلوات الله عليهم).
فلا يصحّ؛ والحال هذه أن يفكّر أحدٌ منا أن العبادة بالمعنى الأعمّ تغني عن العبادة بالمعنى الأخصّ، فان ذلك يتناقض وسيرة أهل البيت عليهم السلام، كما تقدم.
صلاة الليل عبادة متميّزة
لاشك أن صلاة الليل تمثّل مظهراً متميزاً من مظاهر العبادة بالمعنى الأخص وهذا – فيما يبدو – هو الفلسفة الرئيسية لصلاة الليل؛ ولذلك نجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما يُسأل عن العبودية يقول: العبودية خمسة أشياء؛ وعدّ منها قيام الليل[10].
معطيات صلاة الليل
قبل أن نبيّن بعض معطيات صلاة الليل نشير إلى قضية الارتباط والعلاقة بين الأشياء، إذ قد ذكرت في الروايات الشريفة، ارتباطات بين الاشياء ربما تبدو غير مفهومة للكثيرين[11] فكيف نوجّه هذه الارتباطات؟
يمكن ذكر توجيهين في هذا الصدد:
التوجيه الأول: أن هذه الروايات تعبّر عن وجود علاقات حقيقية تكوينية عقلية بين الأشياء، ولكنها علاقات خفيّة لم يكشف الغطاء عنها حتى الآن، ولعل العلم سيتوصّل إليها بعد حين، لاسيما وأننا نعرف بأن آفاق العلم في توسّع مستمر، وقد ورد في الأثر أن عهد الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) سيشهد تكاملاً علمياً هو الأسمى على مرّ التاريخ.
التوجيه الثاني: أننا – كبشر - مقيّدون بنظام الارتباطات، فإذا أردنا تدفئة الغرفة مثلاً، لزمنا إشعال الموقد، تبعاً لنظام العلية والمعلولية، غير أن خالق هذا النظام ليس مقيّداً أو محكوماً به؛ فهو فوق هذا النظام، وإرادته هي الحاكمة عليه، ويشهد لما ذكرناه ما يصدر من بعض الأشخاص من الخوارق كما عرف عن الشيخ النخودكي – في مدينة مشهد –في قضايا كثيرة ومضمون أحدها: أن أحدهم قصده ليسأله علاجاً لزوجته المريضة في طهران، فأعطاه شيئاً من الطعام وأمره بتناوله، مما أثار تعجبه لكونه زوج المريضة وليس هو المريض، فأمره الشيخ بتناوله، وحينما عاد إلى زوجته وجدها قد شفيت.
من هذه القضية وأمثالها قد نفهم عدم لزوم وجود ارتباط تكويني بين الأشياء، اذ من الممكن أن يخلق الله تعالى النتائج بعد حصول بعض المقدمات وإن لم يكن بينها علاقة تكوينية أصلاً، وهذا بحث طويل نتركه الى محلّه.
وعلى كل حال فليس من الصحيح إنكار الارتباطات المذكورة في الروايات الشريفة بين بعض الأمور وبعضها الآخر لمجرد الجهل بحقيقة الارتباط القائم فيما بينها.
يتبـــــــــــــع